وقالت أسماء : سمعت امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : إن لي ضرة وإني أتكثر من زوجي بما لم يفعل ، أضارها بذلك ، فهل عليَّ شيء فيه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوب زور )(متفق عليه ،وهي أسماء بنت أبي بكر الصديق)
" ومما يلتحق بالنساء الصبيان ، فإن الصبي إذا كان لا يرغب في المكتب ( أو المدرسة أو الصلاة ) إلا بوعد أو وعيد ، أو تخويف كاذب ، كان ذلك مباحًا .
" نعم ، روينا في الأخبار أن ذلك يكتب كذابًا ، ولكن الكذب المباح أيضًا قد يكتب ، ويحاسب عليه ، ويطالب بتصحيح قصده فيه ، ثم يعفى عنه ، لأنه إنما أبيح بقصد الإصلاح ، ويتطرق إليه غرر ( أي خطر ) كبير ، فإنه قد يكون الباحث له حظه وغرضه الذي هو مستغن عنه ، وإنما يتعلل ظاهرًا بالإصلاح ، فلهذا يكتب ".
" وكل من أتى بكذبة فقد وقع في خطر الاجتهاد ، ليعلم أن المقصود الذي كذب لأجله : هل هو أهم في الشرع من الصدق أم لا ؟ وذلك غامض جدًا ، والحرام تركه ، إلا أن يصير واجبًا ، بحيث لا يجوز تركه ، كما لو أدى إلى سفك دم ، أو ارتكاب معصية كيف كان " (إحياء علوم الدين ، ج3،ص137،ص 139.)
وعلى ضوء هذا الشرح والبيان الوافي ، نعود إلى السؤال المذكور، وما جاء فيه من اعتذار بأمر لم يحدث ، تخلصًا من الحرج ، وهذا غير الأمور الثلاثة المستثناة في الحديث فهل هو مما يقاس عليها ؟ أم يبقى على أصل الحرمة .
والحقيقة ، أننا إذا نظرنا إلى سؤال الأخت المستفتية ، نجدها ارتكبت خطأين اثنين :
الأول : أنها وعدت صديقتها بالزيارة وأخلفت ، مع أن الوفاء بالوعد واجب ، وإخلافه من آيات النفاق ، كما ذكرنا ، إلا من عذر.
الثاني : أنها بررت هذا الإخلاف بعذر مختلق ، فعالجت الخطأ بخطأ آخر . على نحو ما قال الشاعر :
إذا استشفيت من داء بداء فاقتل ما أعلك ما شفاك
وكان الأولى بها أن تقول الحقيقة ، وإن ظهر تقصيرها ، حتى لا تعود إلى ذلك مرة أخرى . ولا مانع من التلطف والترفق في اختيار الصيغة التي تظهر بها الحقيقة لصديقتها . ومن التلطف المباح هنا أن نستخدم ( المعاريض ) بدل الكذب الصريح. فقد نقل عن السلف أن في المعاريض مندوحة عن الكذب. وقال عمر : أما في المعاريض ما يكفي الرجل عن الكذب؟ (رواه ابن عدي والبيهقي عن عمران بن حصين مرفوعًا وموقوفًا ، قال البيهقي : الصحيح موقوف .) وروى ذلك عن ابن عباس وغيره . وإنما أرادوا بذلك إذا اضطر الإنسان إلى الكذب . فأما إذا لم تكن حاجة أو ضرورة ، فلا يجوز التعريض ولا التصريح جميعًا ، ولكن التعريض أهون .
ومثال التعريض ما روى أن مطرف بن عبدالله أحد علماء التابعين الأجلاء ، دخل على زياد بن أبيه الوالي الأموي المعروف ، فسأله الوالي عن سبب تأخره في زيارته ، فقال : ما رفعت جنبي منذ فارقت الأمير إلا ما رفعني الله . ففهم الأمير منه أنه يتعلل بمرض أصابه ، مع أن السليم أيضًا لا يرفع جنبه إلا ما رفعه الله ، وهذا ما قصده مطرف .
فإذا لم يحضرها ، أو لم يمكنها التعريض بمثل ما ذكرنا ، فهل يجوز لها التصريح بالكذب ، كما فعلت السائلة ؟
والجواب هنا يتوقف على معرفة مدى العلاقة بين الصديقين ، وهل يخشى أن تسوء أو تضعف إذا ذكرت ما وقع بالفعل ؟ فإذا خشي ذلك ،وكان قلب الصديقة لا يطيب إلا بمثل ما اعتذرت به إليها، كان ذلك من باب الضرورة التي تقدر بقدرها ، على ألا تتخذ ذلك عادة ، فيسهل الكذب عليها لحاجة ، ولغير حاجة .
والتشديد في هذا النوع من الكذب ليس معناه أن حرمته في درجة ما جاء في السؤال من الكذب في البيع والمعاملة ، أو الكذب في الشهادة ونحوها ، فإن الكذب المحرم تتفاوت مراتبه تفاوتًا بعيدًا .
فمنه ما هو من صغائر المحرمات .
ومنه ما هو من كبائر المحرمات ، كالكذب في الشهادة التي عدها النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر ، وقرنها القرآن والسنة بالإشراك بالله تعالى .
ومثل ذلك الكذب في اليمين ، كالذي يفعله التجار لترويج السلعة ، ففي الحديث : ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم ، المنان بعطيته ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب ، والمسبل إزاره - أي يطيل ثيابه كبرًا واختيالاً - ) ...(رواه مسلم)
وكذلك كذب الملوك والرؤساء ، لما وراءه من دجل وتضليل ، ففي الصحيح : ( ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : شيخ زان ، وملك كذاب ، وعائل ( أي فقير ) مستكبر )(رواه مسلم أيضًا)
ومثله الكذاب ، الذي يكذب الكذبة فتنتشر عنه في الآفاق ، مثل أصحاب الصحف ، ووكالات الأنباء في عصرنا .
وشر من هذا كله ، الكذب على الله ورسوله ، كما في الحديث المتواتر : ( من كذب عليَّ متعمدًا ، فليتبوأ مقعده من النار ) .
كتاب فتاوى معاصرة الجزء الأول